فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{كلّا إِذا بلغتِ التّراقِي (26)}
ردع ثان على قول الإنسان {أيّان يوم القيامة} [القيامة: 6]، مؤكِّد للردع الذي قبله في قوله: {كلاّ بل تحبّون العاجلة} [القيامة: 20].
ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله: {إلى ربك يومئذٍ المساق} أُتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيُّؤِ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى.
وعن المغيرة بن شعبة يقولون: القيامة القيامةُ، وإنما قيامة أحدهم موته، وعن علقمة أنه حضر جنازة فلما دفن قال: «أمّا هذا فقد قامت قيامته»، فحالة الاحْتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرة.
وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا وتنبهوا على ما بيْن أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة، فيكون ردعا على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة، فليس مؤكدا للردع الذي في قوله: {كلا بل تحبون العاجلة} [القيامة: 20] بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة.
و{إذا بلغت التراقي} متعلق بالكون الذي يُقدر في الخبر وهو قوله: {إلى ربك}.
والمعنى: المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي.
وجملة {إلى ربك يومئذٍ المساق} بيان للردع وتقريب لإِبطال الاستبعاد المحكي عن منكري البعث بقوله: {يسأل أيّان يوم القيامة} [القيامة: 6].
و{إذا} ظرف مضمن معنى الشرط، وهو منتصب بجوابه أعني قوله: {إلى ربك يومئذٍ المساق}.
وتقديم {إلى ربك} على متعلقه وهو {المساق} للاهتمام به لأنه مناط الإِنكار منهم.
وضمير {بلغت} راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل {بلغتْ} ومن ذكر {التراقي} فإن فعل {بلغت التراقي} يدل أنها روح الإنسان.
والتقدير: إذا بلغت الروحُ أو النفس.
وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان، ومثله قول حاتم الطائي:
أماوِيّ ما يغني الثّراء عن الفتى ** إذا حشْرجتْ يوما وضاق بها الصدر

أي إذا حشرجت النفس.
ومن هذا الباب قول العرب (أرْسلتْ) يريدون: أرسلت السماء المطر، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع.
والأنفاسُ: جمع نفس، بفتح الفاء، وهو أنسب بالحقائق.
و{التراقي}: جمع ترْقُوة (بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث) وهي ثُغرة النحر، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله.
فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أُمِن اللبس، لأن في تثنية ترقوة شيئا من الثقل لا يناسب أفصح كلام، وهذا مِثل ما جاء في قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} في سورة [التحريم: 4].
ومعنى {بلغتْ التراقي}: أن الروح بلغت الحُنْجُرة حيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلاّ في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار، ومثله قوله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحُلقوم الآية} [الواقعة: 83].
واللام في {التراقي} مثل اللام في المساق فيقال: هي عوض عن المضاف إليه، أي بلغت روحه تراقِيه، أي الإنساننِ.
ومعنى {وقيل منْ راقٍ} وقال قائل: من يرْقِي هذا رُقْيات لشفائه؟ أي سأل أهلُ المريض عن وِجْدانِ أحد يرقي، وذلك عند توقع اشتداد المرض به والبحث عن عارف برقية المريض عادة عربية ورد ذكرها في حديث السرِيّة الذين أتوْا على حيّ من أحياء العرب إذْ لُدغ سيد ذلك الحي فعرض لهم رجل من أهل الحي، فقال: هل فيكم مِن راق؟ إن في الماء رجلا لديغا أو سليما.
رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب.
والرقيا بالقصر، ويقال بهاء تأنيث: هي كلام خاص معتقد نفعه يقوله قائل عند المريض واضعا يده في وقت القراءة على موضع الوجع من المريض أو على رأس المريض، أو يكتبه الكاتب في خرقة، أو ورقة وتعلق على المريض، وكانت من خصائص التطبب يزعمون أنها تشفي مِن صرع الجنون ومن ضُر السموم ومن الحُمّى.
ويختص بمعرفتها ناس يزعمون أنهم يتلقونها من عارفين فلذلك سمّوا الراقي ونحوه عرّافا، قال رؤبة بن العجاج:
بذلْتُ لعرّاف اليمامة حُكْمهُ ** وعرّافِ نجدٍ إِنْ هُما شفيانِي

فما تركا من عُوذة يعرفانها ** ولا رُقْيةٍ بها رقياني

وقال النابغة يذكر حالة من لدغته أفعى:
تناذرها الراقُون من سُوء سمعها ** تُطلقه طوْرا وطورا تُراجع

وكان الراقي ينفث على المرْقِيّ ويتفُل، وأشار إليه الحريري في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله: (ثم إنه طمس المكتوب على غفلة، وتفل عليه مِائة تفْلة).
وأصل الرقية: ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله، فأصلها وارد من الأديان السماوية، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة فألحقوها بالسحر أو بالطب، ولذلك يخلطونها من أقوالٍ ربما كانت غير مفهومة، ومن أشياء كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره، فاختلط أمرها في الأمم الجاهلة، وقد جاء في الإِسلام الاستشفاء بالقرآن والدعوات المأثورة المتقبلة من أربابها وذلك من قبيل الدعاء.
والضمير المستتر في {ظنّ} عائد إلى الإنسان في قوله: {بل يريد الإنسان} [القيامة: 5] أي الإنسان الفاجر.
والظن: العلم المقارب لليقين، وضمير {أنه} ضمير شأن، أي وأيقن أنه، أي الأمر العظيم الفراقُ، أي فراق الحياة.
وقوله: {والتفّت الساقُ بالساق} إن حمل على ظاهره، فالمعنى التفافُ ساقي المحْتضر بعد موته إذ تُلفُّ الأكفان على ساقيْه ويُقرن بينهما في ثوب الكفن فكُلُّ ساق منهما ملتفة صحبة الساق الأخرى، فالتعريف عوض عن المضاف إليه، وهذا نهاية وصف الحالة التي تهيّأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة.
ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا فإن العرب يستعملون الساق مثلا في الشدة وجِدّ الأمر تمثيلا بساق الساعي أو الناهض لعمل عظيم، يقولون: قامت الحرب على ساق.
{فلا صدّق ولا صلّى (31)}
تفريع على قوله: {يسأل أيان يوم القيامة} [القيامة: 6].
فالضمير عائد إلى الإنسان في قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3] أي لجهله البعث لم يستعد له.
وحذف مفعول {كذّب} ليشمل كلّ ما كذب به المشركون، والتقدير: كذب الرسول والقرآن وبالبعث، وتولى عن الاستجابة لشرائع الإِسلام.
ويجوز أن يكون الفاء تفريعا وعطفا على قوله: {إلى ربك يومئذٍ المساق} [القيامة: 30]، أي فقد فارق الحياة وسيق إلى لقاء الله خاليا من العُدّة لذلك اللقاء.
وفي الكلام على كلا الوجهين حذف يدل عليه السياق تقديره: فقد علم أنه قد خسر وتندم على ما أضاعه من الاستعداد لذلك اليوم.
وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {إذا دُكّت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذٍ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 21 24].
وفعل {صدّق} مشتق من التصديق، أي تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وهو المناسب لقوله: {ولكن كذّب}.
والمعنى: فلا ءامن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض المفسرين فسّر {صدّق} بمعنى أعطى الصّدقة، وهو غير جار على قياس التصريف إذ حقه أن يقال: تصدق، على أنه لا يساعد الاستدراك في قوله: {ولكن كذب}.
وعطف {ولا صلّى} على نفس التصديق تشويها له بأن حاله مبائن لأحْوال أهل الإِسلام.
والمعنى: فلم يؤمن ولم يسلم.
و{لا} نافية دخلت على الفعل الماضي والأكثر في دخولها على الماضي أن يعطف عليها نفي آخر وذلك حين يقصد المتكلم أمرين مثل ما هنا وقول زهير:
فلا هو أخفاها ولم يتقدم

وهذا معنى قول الكسائي (لا) بمعنى (لم) ولكنه يقرن بغيره يقول العرب: لا عبدُ الله خارج ولا فلان، ولا يقولون: مررت برجل لا محسن حتى يقال: ولا مجمل.أهـ.
فإذا لم يعطف عليه نفي آخر فلا يؤتى بعدها بفعل مُضِي إلاّ في إرادة الدعاء نحو: (لا فُضّ فُوك) وشذ ما خالف ذلك.
وأما قوله تعالى: {فلا اقْتحم العقبة} [البلد: 11] فإنّه على تأويل تكرير النّفي لأنّ مفعول الفعل المنفي بحرف {لا} وهو العقبة يتضمن عدة أشياء منفية بيّنها قوله: {وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة أو إطعام} إلى قوله: {من الذين ءامنوا} [البلد: 12 17].
فلما كان ذلك متعلق الفعل المنفي كان الفعل في تأويل تكرير النفي كأنه قيل: فكّ رقبة ولا أطعم يتيما ولا أطعم مسكينا ولا آمن.
وجملة {ولكن كذب} معطوفة على جملة {فلا صدّق}.
وحرف {لكن} المخفف النون بالأصالة أي الذي لم يكن مُخفّف النون المشددة أخت (إنّ) هو حرف استدراك، أي نقض لبعض ما تضمنته الجملة التي قبله إِما لمجرد توكيد المعنى بذكر نقيضه مثل قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم} [الأحزاب: 5]، وإما لبيان إجمال في النفي الذي قبله نحو {ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} [الأحزاب: 40].
وحرف {لكن} المخفف لا يعمل إعرابا فهو حرف ابتداء ولذلك أكثر وقوعه بعد واو العطف وجملة {ولكن كذب وتولى} أفادت معنيين: أحدهما توكيد قوله: {فلا صدّق} بقوله: {كذب}، وثانيهما زيادة بيان معنى {فلا صدق} بأنه تولّى عمدا لأنّ عدم التصديق له أحوال، ونظيره في غير الاستدراك قوله تعالى: {إلاّ إبليس أبى واستكبر} [البقرة: 34].
والتكذيب: تكذيبه بالبعث وبالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
والتولي: الإِعراض عن دعوته إلى النظر والتدبر في القرآن.
وفاعل {صدق} والأفعال المذكورة بعده ضمائر عائدة على الإنسان المتقدم ذكره.
و{يتمطّى}: يمشي المُطيْطاء (بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة) وهي التبختر.
وأصل {يتمطى}: يتمطط، أي يتمدد لأن المتبختر يمُدّ خطاه وهي مشية المعجب بنفسه.
وهنا انتهى وصف الإنسان المكذب.
والمعنى: أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أهله مزدهيا بنفسه غير مفكر في مصيره.
قال ابن عطية: قال جمهور المتأولين: هذه الآية كلها من قوله: {فلا صدّق ولا صلّى} نزلت في أبي جهل بن هشام، قال: ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى: {يتمطى} فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها اهـ.
وفيه نظر سيأتي قريبا.
فقوله: {أولى لك} وعيد، وهي كلمة توعُّد تجري مجرى المثل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم، والمراد به ما يراد بقولهم: ويل لك، من دعاء على المجرور باللام بعدها، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه.
{فأوْلى}: اسم تفضيل من ولي، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه، قال الأصمعي: معناه: قاربك ما تكره، قالت الخنساء:
هممْتُ بنفسي كُلّ الهموم ** فأولى لنفسي أولى لها

وكان القانص إذا أفلته الصيدُ يخاطب الصيد بقوله: {أولى لك} وقد قيل: إن منه قوله تعالى: {فأولى لهم} من قوله: {فأولى لهم طاعة وقول معروف} في سورة القتال (20، 21) على أحد تأويلين يجعل {طاعة وقول معروف} مستأنفا وليس فاعلا لاسم التفضيل، وذهب أبو علي الفارسي إلى أن {أولى} علم لمعنى الويل وأن وزنه أفْعل من الويل وهو الهلاك، فأصل تصريفه أوْيل لك، أي أشدُّ هلاكا لك فوقع فيه القلب (لطلب التخفيف) بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أوْلى بوزن أفلح، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا فقالوا: أولى في صورة وزن فعْلى.
والكاف خطاب للإِنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهارا وإضمارا، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: أولى له.
وقوله: {فأولى} تأكيد ل {أوْلى لك} جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعي عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر.
قال قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فأخذ رسول الله فلبّب أبا جهل بثيابه وقال له {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} قال أبو جهل: يتهددني محمد (أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد) فوالله إني لأعزُّ أهللِ الوادي.
وأنزل الله تعالى: {أولى لك فأولى} كما قال لأبي جهل.
وقوله: {ثم أولى لك فأولى} تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق.
وجيء بحرف {ثم} لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد، وتهديد بأشدّ مما أفاده التهديد الأول وتأكيدُه كقوله تعالى: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3، 4].
وأحسب أن المراد: كُلُّ إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} إلى قوله: {بل الإنسان على نفسه بصِيرة} [القيامة: 3 14]، وما أبو جهل إلاّ مِن أولهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديدا لأمثاله.
وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح. اهـ.